عيد رقاد والدة الإله العذراء مريم قياميّ بامتياز. السيّدة رقدت مثل البشر كلّهم، ولكن، أتى الربّ ونقلها إليه جسدًا وروحًا! كيف لا وهي أمّ الحياة لأنّ يسوع هو الحياة.

هي حملته تسعة أشهر في أحشائها وأخذ منها جسدًا مثلنا جميعًا، وهو بعد رقادها حملها إليه لتولد، أبديًّا، في الملكوت الإلهيّ.

وُلِدَت العذراء مريم مثل سائر الناس، وقدّمت عشقًا لا مثيل له للربّ. أخذت بذوره مِن والديْها البارّين اللذين قدّماها إلى الهيكل عن عمر ثلاث سنوات حيث بقيت إلى عمر اثنتي عشرة سنة تقريبًا. وجودها هناك في قدس الأقداس هو استباق خلاصيّ لكونها سيولد مِن أحشائها البتوليّة مصدرُ القداسة، القدّوسُ الربّ يسوع المسيح.

بعد ذلك، عُهِدت إلى يوسف خطّيب مريم، الرجل المسنّ البار ليحفظها على اسمه. أتاها الملاك جبرائيل وبشّرها بالحبل الإلهيّ بالروح القدس، وبولادة المخلّص منها، ابن الله العليّ.

إستغربت كلامه في بادىء الأمر لأنّ رغبتها كانت ألّا تعرف رجلًا، ليس احتقارًا للزواج -لا سمح الله- ولكن لأنْ كانت رغبتها أن تقدّم نفسها بالكلّيّة للربّ. وعندما أدركت أنّ الحبل هو إلهيّ، قالت لجبرائيل: "هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ" (لو 1: 38).

كلمة أَمَةُ تعني عبدة! ولكن ليس بمعنى العبوديّة الأرضيّة إطلاقًا، بل بمعنى الرّب هو إلهي وسيّدي ومخلّصي.

لا مكان للعبوديّة مع الرّب أوّلًا، هو سيّد الحرّيّة لأنّه سيّد المحبّة وبذل الذات، والمحبّة لا تفرض نفسها بتاتًا، بل على العكس تمامًا تحترم حريّة الآخر وتصونها.

ثانيًّا، لأنّ مريم أخذت قرار القبول بحريّة كاملة. ثمرة القبول كانت التجسّد الإلهيّ، وهذا هو اسم عيد البشارة الذي فيه نرتّل "اليوم رأس خلاصنا"، وذلك أنّ المولود هو ابن الله الواحد في الجوهر الإلهيّ مع الآب والروح القدس، وغير المنفصل عنهما. سرّ إلهيّ كبير لا يُفهم إلّا بالمحبّة.

الآب هو الله والابن هو الله والروح القدس هو الله، وثلاثتهم إله واحد، ولا فرق زمنيّ بين وجود ثلاثتهم، مثل الشمس وشعاعها وحرارتها.

ومعنى اسم يسوع هو "يهوه يشع"، أي الله - الكائن يُخَلِّص، و"يهوه" هو الاسم الذي أعطاه الله لموسى النبيّ عن نفسه. وهذا بالحرف ما قاله يسوع لليهود "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ" (يو 8: 58). وهذا سبب وجود الأحرف اليونانيّة الثلاثة OWN في أيقونات الربّ في الهالة حول رأسه مع الصليب إشارة إلى صلبه.

في البشارة إذًا، تمّ اتّحاد الطبيعة الإلهيّة بالطبيعة البشريّة، ليكون بعد تسعة أشهر، في الميلاد، ظهورُ الله في الجسد.

لذا، من لحظة البشارة، أصبحت مريم والدة الإله، ولا يمكن مناداتها إلّا هكذا، تمامًا كما نادتها نسيبتها أليصابات »أُمُّ رَبِّي». وبالتالي، كلّ اقتراب مِن مريم هو مِن ضمن هذه التسمية، وكلّ اعتراف بها يكون أوّلًا أنّها والدة الإله، وغير ذلك مرفوض وهرطقة جملة وتفصيلًا.

حملت مريم بقلبها هذا التدبير الإلهيّ، فبالإضافة إلى أنّها كانت المصغية بالكامل إلى كلمة الله والعاملة بها والعائشة، بالكليّة، لها، كانت تحفظ كلّ شيء في قلبها وتتأمّل به بتسليم كامل.

هي عاشت منذ بداية حبلها الإلهيّ الفرح والألم والمجد معًا بصمت كبير.

كان يمكن أن تُرجَم وتُتَّهم بالزنى لا سمح الله. هنا أيضًا يأتي دور يوسف خطّيب مريم الذي قفز من العهد القديم إلى العهد الجديد بصمته ودخوله في حيرة، إذ صمت عندما لم يفهم، فأتاه الجواب مِن الله.

وبعد الولادة أتى مقتل أطفال بيت لحم وسفَر والدة الإله ويسوع ويوسف إلى مصر إلى حين موت هيرودس.

كذلك كلام سمعان الشيخ لها: "وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ، لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ" (لو 2: 35). فما الفرح إلّا حملها للمخلّص وما السيف إلّا الصليب وما المجد إلّا القيامة.

وما أجمل ما حصل في عرس قانا الجليل. فلمّا شاهدت مريم نقص الخمر اقتربت من ولدها وإلهها ومخلّصها متلفّظة بثلاث كلمات: »لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ». فأجابها الربّ: "مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ». فلم تجبْه بكلمة وتوجّهت إلى الخدّام قائلة: «مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ" (يوحنا 2).

يا لعظمة هذا الحوار البهيّ الخلاصيّ. مِن كثرة محبّة مريم وغيرتها أشارت إلى يسوع بكلّ ثقة وخفر. فدعاها يا امرأة وأشار إلى أنّ ساعة صلبه لم تأت بعد. كلمة امرأة مجيدة لأنّها هي المرأة الجديدة وحوّاء الجديدة التي أتى منها المخلّص. وأيضًا هي المرأة التي يريد الربّ أن تكون مثلها كلّ امرأة، طاهرة ونقيّة، ووالدةً لكلمة الربّ أينما وجدت. تعيش الإنجيل وتنظر الصعاب برجاء قيامة الربّ مثل العذراء وهي واقفة تحت الصليب. وهناك أيضًا ناداها الربّ "يا امرأة" لتكون أمّ البشريّة جمعاء.

أودعها يسوع تلميذَه الحبيب موصيًا إيّاها أن تكون أمّه، وموصيًا إيّاه، بدوره، أن يكون ابنها. هنا، رسخت القاعدة الذهبيّة: كلّ مَن كان ابن الإنجيل كانت والدةُ الإله أمَّه، وكان هو ابنَها.

بعد قيامة الربّ، ظهر لها يسوع معزّيًا، ونحن نرتّل لها في ذلك: "إنّ الملاك تفوّه نحو المنعم عليها، أيّتها العذراء النقيّة، إفرحي وأَيضًا أقول افرحي لأَنّ ابنك قد قام من القبر في اليوم الثالث". نناديها بالمُنعَم عليها كما ناداها الملاك جبرائيل في البشارة: «سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ» (لوقا 28:1). كيف لا فهي بشارة القيامة!

أمّا رقاد والدة الإله فكان ثمرةَ انتصارِ ابنها على الموت. فكما تظهره الأيقونة، نرى يسوع حاملًا روحها الطاهرة على يديه، وجسمها مستلقٍ أمامه والتلامذة يحيطون بها والملائكة يسبّحون ويهلّلون. ويخبرنا التسليم الشريف أن الرّب عاد ونقلها بالجسد أيضًا إليه بعد ثلاثة أيّام من رقادها.

هكذا هو رقاد القدّيسين: إنتقال إلى الحياة الأبديّة، وهذا ما نحن مدعوّون إلى أن نسعى إليه، فما حياتنا إلّا فرصة قداسة.

نعم، والدة الإله هي أيقونة العشق الإلهيّ، فهلمّ ندخل هذا العشق، لنحيا الملكوت السماويّ منذ الآن.

إلى الربّ نطلب.